فصل: فصل بَيَانِ حُكْمِ فَوَاتِ الْحَجِّ عن الْعُمْرَةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***


فصل بَيَانِ حُكْمِ فَوَاتِ الْحَجِّ عن الْعُمْرَةِ

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ فَوَاتِ الْحَجِّ عن الْعُمْرَةِ فَنَقُولُ من عليه الْحَجُّ إذَا مَاتَ قبل أَدَائِهِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ مَاتَ من غَيْرِ وَصِيَّةٍ وَإِمَّا إنْ مَاتَ عن وَصِيَّةٍ فَإِنْ مَاتَ من غَيْرِ وَصِيَّةٍ يَأْثَمُ بِلَا خِلَافٍ أَمَّا على قَوْلِ من يقول بِالْوُجُوبِ على الْفَوْرِ فَلَا يُشْكِلُ وَأَمَّا على قَوْلِ من يقول بِالْوُجُوبِ على التَّرَاخِي فَلِأَنَّ الْوُجُوبَ يَضِيقُ عليه في آخِرِ الْعُمْرِ في وَقْتٍ يَحْتَمِلُ الْحَجَّ وَحَرُمَ عليه التَّأْخِيرُ فَيَجِبُ عليه أَنْ يَفْعَلَ بِنَفْسِهِ إنْ كان قَادِرًا وَإِنْ كان عَاجِزًا عن الْفِعْلِ بِنَفْسِهِ عَجْزًا مُقَرَّرًا وَيُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ بِمَالِهِ بِإِنَابَةِ غَيْرِهِ مَنَابَ نَفْسِهِ بِالْوَصِيَّةِ فَيَجِبُ عليه أَنْ يُوصِيَ بِهِ فَإِنْ لم يُوصِ بِهِ حتى مَاتَ أَثِمَ بِتَفْوِيتِهِ الْفَرْضَ عن وَقْتِهِ مع إمْكَانِ الْأَدَاءِ في الْجُمْلَةِ فَيَأْثَمُ لَكِنْ يَسْقُطُ عنه في حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا حتى لَا يُلْزِمَ الْوَارِثَ الْحَجَّ عنه من تَرِكَتِهِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَاتُ تَسْقُطُ بِمَوْتِ من عليه سَوَاءٌ كانت بَدَنِيَّةً أو مَالِيَّةً في حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَسْقُطُ وَيُؤْخَذُ من تَرِكَتِهِ قَدْرُ ما يَحُجُّ بِهِ وَيُعْتَبَرُ ذلك من جَمِيعِ الْمَالِ وَهَذَا على الِاخْتِلَافِ في الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْعُشْرِ وَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَنَحْوِ ذلك وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في كتاب الزَّكَاةِ وَإِنْ أَحَبَّ الْوَارِثُ أَنْ يَحُجَّ عنه حَجَّ وَأَرْجُو أَنْ يُجْزِيَهُ ذلك إن شاء الله تعالى‏.‏ كَذَا ذَكَرَ أبو حَنِيفَةَ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِمَا روى أَنَّ رَجُلًا جاء إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وقال يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي مَاتَتْ ولم تَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عنها فقال نعم فَقَدْ أَجَازَ النبي صلى الله عليه وسلم حَجَّ الرَّجُلِ عن أُمِّهِ ولم يَسْتَفْسِرْ أنها مَاتَتْ عن وَصِيَّةٍ أو لَا عن وَصِيَّةٍ وَلَوْ كان الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ لَاسْتَفْسَرَ‏.‏

وَأَمَّا قِرَانُ الِاسْتِثْنَاءِ بالأجزاء فَلِأَنَّ الْحَجَّ كان وَاجِبًا على الْمَيِّتِ قَطْعًا وَالْوَاجِبُ على الْإِنْسَانِ قَطْعًا لَا يَسْقُطُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلسُّقُوطِ قَطْعًا وَالْمُوجِبُ لِسُقُوطِ الْحَجِّ عن الْمَيِّتِ بِفِعْلِ الْوَارِثِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ من أَخْبَارِ الْآحَادِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ عِلْمَ الْعَمَلِ لَا عِلْمَ الشَّهَادَةِ لِاحْتِمَالِ عَدَمِ الثُّبُوتِ وَإِنْ كان احْتِمَالًا مَرْجُوحًا لَكِنَّ الاحتمال الْمَرْجُوحَ يُعْتَبَرُ في عِلْمِ الشَّهَادَةِ وَإِنْ كان لَا يُعْتَبَرُ في عِلْمِ الْعَمَلِ فَعَلَّقَ الأجزاء وَالسُّقُوطَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى احْتِرَازًا عن الشَّهَادَةِ على اللَّهِ تَعَالَى من غَيْرِ عِلْمٍ قَطْعِيٍّ وَهَذَا من كَمَالِ الْوَرَعِ وَالِاحْتِيَاطِ في دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ من حَالِ من عليه الْحَجُّ إذَا عَجَزَ عن الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ حتى أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ وَلَهُ مَالٌ أَنَّهُ يَأْمُرُ وَارِثَهُ بِالْحَجِّ عنه تَفْرِيغًا لِذِمَّتِهِ عن عُهْدَةِ الْوَاجِبِ فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ مَوْجُودَةً دَلَالَةً وَالثَّابِتُ دَلَالَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا لَكِنْ أَلْحَقَ الِاسْتِثْنَاءَ بِهِ لِاحْتِمَالِ الْعَدَمِ فَإِنْ قِيلَ لو كان الْأَمْرُ على ما ذَكَرْتُمْ هَلَّا أَلْحَقَ الِاسْتِثْنَاءَ بِكُلِّ ما يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَالْجَوَابُ أَنَّكَ أَبْعَدْت في الْقِيَاسِ إذْ لَا كُلَّ خَبَرٍ يُرَدُّ بِمِثْلِ هذا الْحُكْمِ وهو سُقُوطُ الْفَرْضِ وَمَحَلُّ سُقُوطِ الِاسْتِثْنَاءِ هذا فَإِنْ ثَبَتَ الْإِطْلَاقُ منه في مِثْلِهِ في مَوْضِعٍ من غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَذَلِكَ لِوُجُودِ النِّيَّةِ منه عليه في الْحَجِّ فَتَقَعُ الْغُنْيَةُ عن الْإِفْصَاحِ بِهِ في كل مَوْضِعٍ وَإِنْ مَاتَ عن وَصِيَّةٍ لَا يَسْقُطُ الْحَجُّ عنه وَيَجِبُ أَنْ يُحَجَّ عنه لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْحَجِّ قد صَحَّتْ وإذا حُجَّ عنه يَجُوزُ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ وَهِيَ نِيَّةُ الْحَجِّ عنه وإن يَكُونَ الْحَجُّ بِمَالِ الْمُوصِي أو بِأَكْثَرِهِ إلَّا تَطَوُّعًا وَأَنْ يَكُونَ رَاكِبًا لَا مَاشِيًا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَيُحَجُّ عنه من ثُلُثِ مَالِهِ سَوَاءٌ قَيَّدَ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ بِأَنْ يُحَجَّ عنه بِثُلُثِ مَالِهِ أو أَطْلَقَ بِأَنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عنه‏.‏

أَمَّا إذَا قَيَّدَ فَظَاهِرٌ وَكَذَا إذَا أَطْلَقَ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تُنَفَّذُ من الثُّلُثِ وَيُحَجُّ عنه من بَلَدِهِ الذي يَسْكُنُهُ لِأَنَّ الْحَجَّ مَفْرُوضٌ عليه من بَلَدِهِ فَمُطْلَقُ الْوَصِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَلِهَذَا قال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ رَوَى ابن رُسْتُمَ عنه في خُرَاسَانِيٍّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ بِمَكَّةَ فَأَوْصَى أَنْ يحج عنه يُحَجَّ عنه من خُرَاسَانَ وَرَوَى هِشَامٌ عن أبي يُوسُفَ في مَكِّيٍّ قَدِمَ الرَّيَّ فَحَضَرَهُ الْمَوْتُ فَأَوْصَى أَنْ يُحَجُّ عنه يحج ‏[‏حج‏]‏ عنه من مَكَّةَ فَإِنْ أَوْصَى أَنْ يُقْرَنَ عنه قُرِنَ عنه من الرَّيِّ لِأَنَّهُ لَا قِرَانَ لِأَهْلِ مَكَّةَ فَتُحْمَلُ الْوَصِيَّةُ على ما يَصِحُّ وهو الْقِرَانُ من حَيْثُ مَاتَ هذا إذَا كان ثُلُثُ الْمَالِ يَبْلُغُ أَنْ يُحَجَّ عنه من بَلَدِهِ حُجَّ عنه فَإِنْ كان لَا يَبْلُغُ يُحَجُّ من حَيْثُ يَبْلُغُ اسْتِحْسَانًا وَكَذَا إذَا أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عنه بِمَالٍ سَمَّى مَبْلَغَهُ إنْ كان يَبْلُغُ أَنْ يُحَجَّ عنه من بَلَدِهِ حُجَّ عنه وَإِلَّا فَيُحَجُّ عنه من حَيْثُ يَبْلُغُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَنْفِيذُهَا على ما قَصَدَهُ الْمُوصِي وَهَذَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ كما إذَا أَوْصَى بِعِتْقِ نَسَمَةٍ فلم يَبْلُغْ ثُلُثُ الْمَالِ ثَمَنَ النَّسَمَةِ‏.‏

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ غَرَضَ الْمُوصِي من الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ تَفْرِيغُ ذِمَّتِهِ عن عُهْدَةِ الْوَاجِبِ وَذَلِكَ في التَّصْحِيحِ لَا في الْإِبْطَالِ وَلَوْ حُمِلَ ذلك على الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ من بَلَدِهِ لَبَطَلَتْ وَلَوْ حُمِلَ على الْوَصِيَّةِ من حَيْثُ يَبْلُغُ لَصَحَّتْ فَيُحْمَلُ عليه تَصْحِيحًا لها وفي الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ النَّسَمَةِ تَعَذَّرَ التَّصْحِيحُ أَصْلًا وَرَأْسًا فَبَطَلَتْ فَإِنْ خَرَجَ من بَلَدِهِ إلَى بَلَدٍ أَقْرَبَ من مَكَّةَ فَإِنْ كان خَرَجَ لِغَيْرِ الْحَجِّ حُجَّ عنه من بَلَدِهِ في قَوْلِهِمْ جميعا وَإِنْ كان خَرَجَ لِلْحَجِّ فَمَاتَ في بَعْضِ الطَّرِيقِ وَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عنه فَكَذَلِكَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يُحَجُّ عنه من حَيْثُ بَلَغَ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ قَدْرَ ما قَطَعَ من الْمَسَافَةِ في سَفَرِهِ بِنِيَّةِ الْحَجِّ مُعْتَدُّ بِهِ من الْحَجِّ لم يَبْطُلْ بِالْمَوْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَخْرُجْ من بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ على اللَّهِ‏}‏ فَسَقَطَ عنه ذلك الْقَدْرُ من فَرْضِ الْحَجِّ وَبَقِيَ عليه اتمامه وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَدْرَ الْمَوْجُودَ من السَّفَرِ يُعْتَبَرُ لَكِنْ في حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وهو الثَّوَابُ لَا في حق أحكام الدنيا إن لم يبطل به في حق أحكام الآخرة وكلامنا في حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِأَنَّ ذلك يَتَعَلَّقُ بِأَدَاءِ الْحَجِّ ولم يَتَّصِلْ بِهِ الْأَدَاءُ فَبَطَلَ بِالْمَوْتِ في حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَلَوْ خَرَجَ لِلْحَجِّ فَأَقَامَ في بَعْضِ الْبِلَادِ حتى دَارَتْ السَّنَةُ ثُمَّ مَاتَ وقد أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عنه يُحَجُّ عنه من بَلَدِهِ بِلَا خِلَافٍ أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ ذلك السَّفَرَ لم يَتَّصِلْ بِهِ عَمَلُ الْحَجَّةِ التي سَافَرَ لها فلم يُعْتَدَّ بِهِ عن الْحَجِّ وَإِنْ كان ثُلُثُ مَالِهِ لَا يَبْلُغُ أَنْ يُحَجَّ بِهِ عنه إلَّا مَاشِيًا فقال رَجُلٌ أنا أَحُجُّ عنه من بَلَدِهِ مَاشِيًا رَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ وَلَكِنْ يُحَجُّ عنه من حَيْثُ يَبْلُغُ رَاكِبًا‏.‏

وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ إنْ أَحَجُّوا عنه من بَلَدِهِ مَاشِيًا جَازَ وَإِنْ أَحَجُّوا من حَيْثُ يَبْلُغُ رَاكِبًا جَازَ وَأَصْلُ هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُوصِي بِالْحَجِّ إذَا اتَّسَعَتْ نَفَقَتُهُ لِلرُّكُوبِ فَأَحَجُّوا عنه مَاشِيًا لم يَجُزْ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ هو الْحَجُّ رَاكِبًا فَإِطْلَاقُ الْوَصِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى ذلك كَأَنَّهُ أَوْصَاهُ بِذَلِكَ وقال أَحِجُّوا عَنِّي رَاكِبًا وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ مَاشِيًا كَذَا هذا وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أن فَرْضَ الْحَجِّ له تَعَلُّقٌ بِالرُّكُوبِ وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِبَلَدِهِ وَلَا يُمْكِنُ مُرَاعَاتُهُمَا جميعا وفي كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَالٌ من وَجْهٍ وَنُقْصَانٌ من وَجْهٍ فَيَجُوزُ أَيُّهُمَا كان وَإِنْ كان ثُلُثُ مَالِهِ لَا يَبْلُغُ أَنْ يُحَجَّ عنه من بَلَدِهِ فَحُجَّ عنه من مَوْضِعٍ يَبْلُغُ وَفَضَلَ من الثُّلُثِ وَتُبُيِّنَ أَنَّهُ كان يَبْلُغُ من مَوْضِعٍ أَبْعَدَ منه يَضْمَنُهُ الْوَصِيُّ وَيُحَجُّ عن الْمَيِّتِ من حَيْثُ يَبْلُغُ لِأَنَّهُ تُبُيِّنَ أَنَّهُ خَالَفَ إلَّا إذَا كان الْفَاضِلُ شيئا يَسِيرًا من زَادٍ أو كِسْوَةٍ فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا وَلَا ضَامِنًا وَيَرُدُّ الْفَضْلَ إلَى الْوَرَثَةِ لِأَنَّ ذلك مِلْكُهُمْ وَإِنْ كان لِلْمُوصِي وَطَنَانِ فَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عنه من أَقْرَبِ الْوَطَنَيْنِ لِأَنَّ الْأَقْرَبَ دخل في الْوَصِيَّةِ بِيَقِينٍ وفي دُخُولِ الْأَبْعَدِ شَكٌّ فَيُؤْخَذُ بِالْيَقِينِ وَفِيمَا ذَكَرْنَا من الْمَسَائِلِ التي وَجَبَ الْحَجُّ من بَلَدِهِ إذَا أَحَجَّ الْوَصِيُّ من غَيْرِ بَلَدِهِ يَكُونُ ضَامِنًا وَيَكُونُ الْحَجُّ له وَيَحُجُّ عن الْمَيِّتِ ثَانِيًا لِأَنَّهُ خَالَفَ إلَّا إذَا كان الْمَكَانُ الذي أَحَجَّ عنه قَرِيبًا إلَى وَطَنِهِ بِحَيْثُ يَبْلُغُ إلَيْهِ وَيَرْجِعُ إلَى الْوَطَنِ قبل اللَّيْلِ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا وَلَا ضَامِنًا وَيَكُونُ كَاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ وَلَوْ مَاتَ في مَحَلَّةٍ فَأَحَجُّوا عنه من مَحَلَّةٍ أُخْرَى جَازَ كَذَا هذا فَإِنْ قال الْمُوصِي أَحِجُّوا عني بِثُلُثِ مَالِي وَثُلُثُ مَالِهِ يَبْلُغُ حِجَجًا حُجَّ عنه حِجَجًا كَذَا رَوَى الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عنه بِثُلُثِ مَالِهِ وَثُلُثُ مَالِهِ يَبْلُغُ حِجَجًا يُحَجُّ عنه حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ من وَطَنِهِ وَهِيَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إلَّا إذَا أَوْصَى أن يُحَجُّ عنه بِجَمِيعِ الثُّلُثِ فَيُحَجُّ عنه حِجَجًا بِجَمِيعِ الثُّلُثِ وما ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَثْبَتُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ وَبِجَمِيعِ الثُّلُثِ وَاحِدٌ لِأَنَّ الثُّلُثَ اسْمٌ لِجَمِيعِ هذا السَّهْمِ ثُمَّ الْوَصِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَحَجَّ عنه الْحِجَجَ في سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ شَاءَ أَحَجَّ عنه في كل سَنَةٍ وَاحِدَةً‏.‏

وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ في سَنَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ فيه تَعْجِيلُ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ وَالتَّعْجِيلُ في هذا أَفْضَلُ من التَّأْخِيرِ وَإِنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عنه من مَوْضِعِ كَذَا من غَيْرِ بَلَدِهِ يُحَجُّ عنه من ثُلُثِ مَالِهِ من ذلك الْمَوْضِعِ الذي بُيِّنَ قَرُبَ من مَكَّةَ أو بَعُدَ عنها لِأَنَّ الْإِحْجَاجَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِأَمْرِهِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ أَمْرِهِ وما فَضَلَ في يَدِ الْحَاجَّ عن الْمَيِّتِ بَعْدَ النَّفَقَةِ في ذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ فإنه يَرُدُّهُ على الْوَرَثَةِ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَأْخُذَ شيئا مِمَّا فَضَلَ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَصِيرُ مِلْكًا لِلْحَاجِّ بِالْإِحْجَاجِ وَإِنَّمَا يُنْفِقُ قَدْرَ ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ في ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ على حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ لو مَلَكَ إنَّمَا يَمْلِكُ بِالِاسْتِئْجَارِ وَالِاسْتِئْجَارُ على الطَّاعَاتِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا فَكَانَ الْفَاضِلُ مِلْكَ الْوَرَثَةِ فَيَجِبُ عليه رَدُّهُ إلَيْهِمْ وَلَوْ قَاسَمَ الْوَرَثَةَ وَعَزَلَ قَدْرَ نَفَقَةِ الْحَجِّ وَدَفَعَ بَقِيَّةَ التَّرِكَةِ إلَى الْوَرَثَةِ فَهَلَكَ الْمَعْزُولُ في يَدِ الموصي ‏[‏الوصي‏]‏ أو في يَدِ الْحَاجِّ قبل الْحَجِّ بَطَلَتْ الْقِسْمَةُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَهَلَكَ ذلك الْقَدْرُ من الْجُمْلَةِ وَلَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ وَيُحَجُّ له من ثُلُثِ الْمَالِ الْبَاقِي حتى يَحْصُلَ الْحَجُّ أو يَنْوِيَ الْمَالَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَجَعَلَ أبو حَنِيفَةَ الْحَجَّ بِمَنْزِلَةِ الْمُوصَى له الْغَائِبِ وَقِسْمَةُ الْوَصِيِّ مع الْوَرَثَةِ على الموصي له الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ حتى لو قَاسَمَ مع الْوَرَثَةِ وَعَزَلَ نَصِيبَ الموصي له ثُمَّ هَلَكَ في يَدِهِ قبل أَنْ يَصِلَ إلَى الْمُوصَى له الْغَائِبِ يَهْلِكُ من الْجُمْلَةِ وَيَأْخُذُ الموصي له ثُلُثَ الْبَاقِي كَذَلِكَ الْحَجُّ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ إنْ بَقِيَ من ثُلُثِ مَالِهِ شَيْءٌ يُحَجُّ عنه مِمَّا بَقِيَ من ثُلُثِهِ من حَيْثُ يَبْلُغُ وَأَنَّهُ لم يَبْقَ من ثُلُثِهِ شَيْءٌ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ

وقال مُحَمَّدٌ قِسْمَةُ الْوَصِيَّةِ جَائِزَةٌ وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِهَلَاكِ الْمَعْزُولِ سَوَاءٌ بَقِيَ من الْمَعْزُولِ شَيْءٌ أو لم يَبْقَ شَيْءٌ فَإِنْ لم يَهْلِكْ ذلك الْمَالُ وَلَكِنْ مَاتَ الْمُجَهَّزُ في بَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةِ فما أَنْفَقَ المجاهز ‏[‏المجهز‏]‏ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ نَفَقَةُ مِثْلِهِ فَلَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّهُ لم يُنْفِقْ على الْخِلَافِ بَلْ على الْوِفَاقِ وما بَقِيَ في يَدِ الْمُجَهَّزِ الْقِيَاسُ أَنْ يُضَمَّ إلَى مَالِ الْمُوصِي فَيَعْزِلُ ثُلُثَ مَالِهِ وَيَحُجُّ عنه من وَطَنِهِ وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وفي الِاسْتِحْسَانِ يَحُجُّ بِالْبَاقِي من حَيْثُ تَبْلُغُ وهو قَوْلُهُمَا‏.‏

فصل في وجوب الحج

ثُمَّ الْحَجُّ كما هو وَاجِبٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً على من اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْوُجُوبِ وهو حَجَّةُ الْإِسْلَامِ فَقَدْ يَجِبُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ بِنَاؤُهُ على وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ من الْعَبْدِ وهو النَّذْرُ بِأَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّةٌ لِأَنَّ النَّذْرَ من أَسْباب الْوُجُوبِ في الْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ الْمَقْصُودَةِ قال النبي صلى الله عليه وسلم من نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَكَذَا لو قال عَلَيَّ حَجَّةٌ فَهَذَا وَقَوْلُهُ لِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّةٌ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى وَسَوَاءٌ كان النَّذْرُ مُطْلَقًا أو مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ بِأَنْ قال إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ حتى يَلْزَمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وَلَا يَخْرُجُ عنه بِالْكَفَّارَةِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عن أبي حَنِيفَةَ وَسَنَذْكُرُ إن شاء الله تعالى‏.‏ الْمَسْأَلَةَ في كتاب النَّذْرِ وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ إحْرَامٌ أو قال عَلَيَّ إحْرَامٌ صَحَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أو عُمْرَةٌ وَالتَّعْيِينُ إلَيْهِ وَكَذَا إذَا ذَكَرَ لَفْظًا يَدُلُّ على الْتِزَامِ الْإِحْرَامِ بِأَنْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أو إلَى الْكَعْبَةِ أو إلَى مَكَّةَ جَازَ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أو عُمْرَةٌ‏.‏

وَلَوْ قال إلَى الْحَرَمِ أو إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لم يَصِحَّ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ وَيَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أو عُمْرَةٌ وَلَوْ قال إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لَا يَصِحُّ في قَوْلِهِمْ جميعا وَلَوْ قال عَلَيَّ الذَّهَابُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أو الْخُرُوجُ أو السَّفَرُ أو الْإِتْيَانُ لَا يَصِحُّ في قَوْلِهِمْ وَدَلَائِلُ هذه الْمَسَائِلِ تُذْكَرُ إن شاء الله تعالى‏.‏ في كتاب النَّذْرِ فإنه كتاب مُفْرَدٌ وَإِنَّمَا نَذْكُرُ هَهُنَا بَعْضَ ما يَخْتَصُّ بِالْحَجِّ فَإِنْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ هَدْيٌ أو عَلَيَّ هَدْيٌ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ذَبَحَ شَاةً وَإِنْ شَاءَ نَحَرَ جَزُورًا وَإِنْ شَاءَ ذَبَحَ بَقَرَةً لِأَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ يَقَعُ على كل وَاحِدٍ من الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فما اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ‏}‏ قِيلَ في التَّفْسِيرِ أن الْمُرَادَ منه الشَّاةُ وإذا كانت الشَّاةُ ما اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ من الْهَدْيِ ما لَا يَكُونُ مُسْتَيْسَرًا وهو الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وقد رَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَمَّا سُئِلَ عن الْهَدْيِ أَدْنَاهُ شَاةٌ وإذا كانت الشَّاةُ أَدْنَى الْهَدْيِ كان أَعْلَاهُ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ ضَرُورَةً وقد رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال الْهَدْيُ من ثَلَاثَةٍ وَالْبَدَنَةُ من اثْنَيْنِ وَلِأَنَّ مَأْخَذَ الِاسْمِ دَلِيلٌ عليه لِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يهدي أَيْ يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ في الْغَنَمِ كما يُوجَدُ في الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَيَجُوزُ سُبْعُ الْبَدَنَةِ عن الشَّاةِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال الْبَدَنَةُ تجزي عن سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةُ تجزي عن سَبْعَةٍ وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ بَدَنَةٌ فَإِنْ شَاءَ نَحَرَ جَزُورًا وَإِنْ شَاءَ ذَبَحَ بَقَرَةً عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ إلَّا الْجَزُورُ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْبَدَنَةَ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْجَمَلِ وَالدَّلِيلُ عليه قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ من شَعَائِرِ اللَّهِ‏}‏ ثُمَّ فَسَّرَهَا بِالْإِبِلِ بِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عليها صَوَافَّ‏}‏ أَيْ قَائِمَةً مُصْطَفَّةً وَالْإِبِلُ هِيَ التي تُنْحَرُ كَذَلِكَ فَأَمَّا الْبَقَرُ فَإِنَّهَا تُذْبَحُ مُضْجَعَةً وَرَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال الْبَدَنَةُ تجزي عن سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةُ تجزىء عن سَبْعَةٍ حتى قال جَابِرٌ نَحَرْنَا على عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْبَدَنَةَ عن سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عن سَبْعَةٍ مَيَّزَ بين الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ فَدَلَّ أَنَّهُمَا غَيْرَانِ وَلَنَا ما رَوَيْنَا عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال الْهَدْيُ من ثَلَاثَةٍ وَالْبَدَنَةُ من اثْنَيْنِ وَهَذَا نَصٌّ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ وقال إنَّ رَجُلًا صَاحِبًا لنا أَوْجَبَ على نَفْسِهِ بَدَنَةً أَفَتَجْزِيهِ الْبَقَرَةُ فقال له ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه مِمَّ صَاحِبُكُمْ قال من بَنِي رَبَاحٍ فقال مَتَى اقْتَنَتْ بَنُو رَبَاحٍ الْبَقَرَ إنَّمَا الْبَقَرُ لِلْأَزْدِ وَإِنَّمَا وَهِمَ صَاحِبُكُمْ الْإِبِلَ وَلَوْ لم يَقَعْ اسْمُ الْبَدَنَةِ على الْبَقَرِ لم يَكُنْ لِسُؤَالِهِ مَعْنًى وَلَمَا سَأَلَهُ فَقَدْ أَوْقَعَ الِاسْمَ على الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ لَكِنْ أَوْجَبَ على النَّاذِرِ الْإِبِلَ لِإِرَادَتِهِ ذلك ظَاهِرًا وَلِأَنَّ الْبَدَنَةَ مَأْخُوذَةٌ من الْبَدَانَةِ وَهِيَ الضَّخَامَةُ وَأَنَّهَا تُوجَدُ فِيهِمَا وَلِهَذَا اسْتَوَيَا في الْجَوَازِ عن سَبْعَةٍ وَلَا حُجَّةَ له في الْآيَةِ لِأَنَّ فيها جَوَازَ إطْلَاقِ اسْمِ الْبَدَنَةِ على الأبل وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذلك وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّهُ وَقَعَ التَّمْيِيزُ بين الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ في الحديث فَمَمْنُوعٌ لِأَنَّ ذِكْرَ الْبَقَرَةِ ما خَرَجَ على التَّمْيِيزِ بَلْ على التَّأْكِيدِ كما في قَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا من النبي صلى الله عليه وسلمينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْك وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ‏}‏ وَكَمَا في قَوْلِ الْقَائِلِ جاني ‏[‏جاءني‏]‏ أَهْلُ قَرْيَةِ كَذَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ على أَنَّ ظَاهِرَ الْعَطْفِ أن أُوِّلَ على التَّغْيِيرِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا في جَوَازِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن سَبْعَةٍ يَدُلُّ على الِاتِّحَادِ في الْمَعْنَى وَلَا حُجَّةَ مع التَّعَارُضِ وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ جَزُورٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ بَعِيرًا لِأَنَّ اسْمَ الْجَزُورِ لَا يَقَعُ إلَّا على الْإِبِلِ وَيَجُوزُ إيجَابُ الْهَدْيِ مُطْلَقًا وَمُعَلَّقًا بِشَرْطٍ بِأَنْ يَقُولَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ هَدْيٌ‏.‏

وَلَوْ قال هذه الشَّاةُ هدى إلَى بَيْتِ اللَّهِ أو إلَى الْكَعْبَةِ أو إلَى مَكَّةَ أو إلَى الْحَرَمِ أو إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أو إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَالْجَوَابُ فيه كَالْجَوَابِ في قَوْلِهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أو إلَى كَذَا وَكَذَا على الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ وَلَوْ أَوْجَبَ على نَفْسِهِ أَنْ يُهْدِيَ مَالًا بِعَيْنِهِ من الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا مِمَّا سِوَى النَّعَمِ جَازَ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ أو بِقِيمَتِهِ

وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ على فُقَرَاءِ مَكَّةَ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِالْكُوفَةِ جَازَ وَأَمَّا في النَّعَمِ من الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَلَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ إلَّا في الْحَرَمِ فَيَذْبَحُ في الْحَرَمِ وَيَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهِ على فُقَرَاءِ مَكَّةَ هو الْأَفْضَلُ وَلَوْ تَصَدَّقَ على غَيْرِ فُقَرَاءِ مَكَّةَ جَازَ كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ في الثِّيَابِ في عَيْنِهَا وهو التَّصَدُّقُ بها وَالصَّدَقَةُ لَا تَخْتَصُّ بِمَكَانٍ كَسَائِرِ الصَّدَقَاتِ فَأَمَّا مَعْنَى الْقُرْبَةِ في الْهَدْيِ من النَّعَمِ في الْإِرَاقَةِ شَرْعًا وَالْإِرَاقَةُ لم تُعْرَفْ قُرْبَةً في الشَّرْعِ إلَّا في مَكَان مَخْصُوصٍ أو زَمَانٍ مَخْصُوصٍ وَالشَّرْعُ أَوْجَبَ الْإِرَاقَةَ هَهُنَا في الْحَرَمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ‏}‏ حتى إذَا ذَبَحَ الْهَدْيَ جَازَ له أَنْ يَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ على فُقَرَاءَ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ لَحْمًا صَارَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فيه في الصَّدَقَةِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ وَلَوْ جَعَلَ شَاةً هَدْيًا أَجْزَأَهُ أَنْ يُهْدِيَ قِيمَتَهَا في رِوَايَةِ أبي سُلَيْمَانَ وفي رواية‏:‏ أبي حَفْصٍ لَا يَجُوزُ وَجْهُ رِوَايَةِ أبي سُلَيْمَانَ اعْتِبَارُ الْبَدَنَةِ بِالْأَمْرِ ثُمَّ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى من إخْرَاجِ الزَّكَاةِ من الْغَنَمِ يَجُوزُ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ فيه كَذَا في النُّذُورِ‏.‏

وَجْهُ رِوَايَةِ أبي حَفْصٍ أَنَّ الْقُرْبَةَ تَعَلَّقَتْ بِشَيْئَيْنِ إرَاقَةِ الدَّمِ وَالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ وَلَا يُوجَدْ في الْقِيمَةِ إلَّا أَحَدُهُمَا وهو التَّصَدُّقُ وَيَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدَايَا في أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ من الْحَرَمِ وَلَا يَخْتَصُّ بِمِنًى وَمِنْ الناس من قال لَا يَجُوزُ إلَّا بِمِنًى وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال الْحَرَمُ كُلُّهُ مَنْحَرٌ وقد ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ من قَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏ الْحَرَمُ وَأَمَّا الْبَدَنَةُ إذَا أَوْجَبَهَا بِالنَّذْرِ فإنه يَنْحَرُهَا حَيْثُ شَاءَ إلَّا إذَا نَوَى أَنْ يَنْحَرَ بِمَكَّةَ فَلَا يَجُوزُ نَحْرُهَا إلَّا بِمَكَّةَ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وقال أبو يُوسُفَ أَرَى أَنْ يَنْحَرَ الْبُدْنَ بِمَكَّةَ لِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏ أَيْ الْحَرَمِ‏.‏

وَلَهُمَا أَنَّهُ ليس في لَفْظِ الْبَدَنَةِ ما يَدُلُّ على امْتِيَازِ الْمَكَانِ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ من الْبَدَانَةِ وَهِيَ الضَّخَامَةُ يُقَالُ بَدَنَ الرَّجُلُ أَيْ ضَخُمَ وقد قِيلَ في بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ‏}‏ أَنَّ تَعْظِيمَهَا اسْتِسْمَانُهَا وَلَوْ أَوْجَبَ جزأ فَهُوَ من الْإِبِلِ خَاصَّةً وَيَجُوزُ أَنْ يَنْحَرَ في الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهِ وَيَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدَايَا قبل أَيَّامِ النَّحْرِ وَالْجُمْلَةُ فيه أَنَّ دَمَ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ وَهَدْيَ التَّطَوُّعِ يَجُوزُ قبل أَيَّامِ النَّحْرِ وَلَا يَجُوزُ دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَيَجُوزُ دَمُ الْإِحْصَارِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ وَأَدْنَى السِّنِّ الذي يَجُوزُ في الْهَدَايَا ما يَجُوزُ في الضَّحَايَا وهو الثَّنِيُّ من الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ وَالْجَذَعِ من الضَّأْنِ إذَا كان عَظِيمًا وَبَيَانُ ما يَجُوزُ في ذلك وما لَا يَجُوزُ من بَيَانِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ مَوْضِعُهُ كتاب الْأُضْحِيَّةِ وَلَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِظَهْرِهَا وَصُوفِهَا وَلَبَنِهَا إلَّا في حَالِ الِاضْطِرَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَكُمْ فيها مَنَافِعُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏ قِيلَ في بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ لَكُمْ فيها مَنَافِعُ من ظُهُورِهَا وَأَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَيْ إلَى أَنْ تُقَلَّدَ وتهدي ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أَيْ ثُمَّ مَحِلُّهَا إذَا قُلِّدَتْ واهديت إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ لِأَنَّهَا ما لم تَبْلُغْ مَحِلَّهَا فَالْقُرْبَةُ في التَّصَدُّقِ بها فإذا بَلَغَتْ مَحِلَّهَا فَحِينَئِذٍ تَتَعَيَّنُ الْقُرْبَةُ فيها بِالْإِرَادَةِ فَإِنْ قِيلَ روى أَنَّ رَجُلًا كان يَسُوقُ بَدَنَةً فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ارْكَبْهَا وَيْحَكَ فقال إنَّهَا بَدَنَةٌ يا رَسُولَ اللَّهِ فقال ارْكَبْهَا وَيْحَكَ وَقِيلَ وَيْحَكَ كَلِمَةُ تَرَحُّمٍ وَوَيْلَكَ كَلِمَةُ تَهَدُّدٍ فَقَدْ أَبَاحَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم رُكُوبَ الْهَدْيِ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الرَّجُلَ كان قد أَجْهَدَهُ السَّيْرُ فَرَخَّصَ له النبي صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَنَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بها في مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ بِبَدَلٍ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ في حَالَةِ الِاضْطِرَارِ بِبَدَلٍ وَكَذَا في الْهَدَايَا إذَا رَكِبَهَا وَحَمَلَ عليها لِلضَّرُورَةِ يَضُمُّ ما نَقَصَهَا الْحَمْلُ وَالرُّكُوبُ وَيَنْضَحُ ضَرْعَهَا لِأَنَّهُ إذَا لم يَجُزْ له الِانْتِفَاعُ بِلَبَنِهَا فَلَبَنُهَا يُؤْذِيهَا فَيُنْضَحُ بِالْمَاءِ حتى يَتَقَلَّصَ وَيَرْقَى لَبَنُهَا وما حُلِبَ قبل ذلك يَتَصَدَّقُ بِهِ إنْ كان قَائِمًا وَإِنْ كان مُسْتَهْلَكًا يَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهِ لِأَنَّ اللَّبَنَ جُزْءٌ من أَجْزَائِهَا فَيَجِبُ صَرْفُهُ إلَى الْقُرْبَةِ كما لو وَلَدَتْ وَلَدًا أنها تُذْبَحُ وَيُذْبَحُ وَلَدُهَا كَذَا هذا فَإِنْ عَطِبَ الْهَدْيُ في الطَّرِيقِ قبل أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ فَإِنْ كان وَاجِبًا نَحَرَهُ وهو لِصَاحِبِهِ يَصْنَعُ بِهِ ما شَاءَ وَعَلَيْهِ هَدْيٌ مَكَانَهُ وَإِنْ كان تَطَوُّعًا نَحَرَهُ وَغَمَسَ نَعْلَهُ بِدَمِهِ ثُمَّ ضَرَبَ صَفْحَةَ سَنَامِهِ وخلي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الناس يَأْكُلُونَهُ وَلَا يَأْكُلُ هو بِنَفْسِهِ وَلَا يُطْعِمُ أَحَدًا من الْأَغْنِيَاءِ وَالْفَرْقُ بين الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ أَنَّهُ إذَا كان وَاجِبًا فَالْمَقْصُودُ منه إسْقَاطُ الْوَاجِبِ فإذا انْصَرَفَ من تِلْكَ الْجِهَةِ كان له أَنْ يَفْعَلَ بِهِ ما شَاءَ وَعَلَيْهِ هَدْيٌ آخَرُ مَكَانَهُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا لم يَقَعْ عن الْوَاجِبِ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ الْوَاجِبُ في ذِمَّتِهِ بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ وَلِأَنَّ الْقُرْبَةَ قد تَعَيَّنَتْ فيه وَلَيْسَ عليه غَيْرُ ذلك وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنَّهُ يَنْحَرُهُ وَيَفْعَلُ بِهِ ما ذَكَرْنَا لِمَا ذَكَرْنَا وَلِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ بَعَثَ هَدْيًا على يَدِ نَاجِيَةَ بن جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيِّ فقال يا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَزْحَفَ منها أَيْ قَامَتْ من الْإِعْيَاءِ وفي رواية‏:‏ قال ما أَفْعَلُ بِمَا يَقُومُ عَلَيَّ فقال النبي صلى الله عليه وسلم انْحَرْهَا وَاصْبُغْ نَعْلَهَا بِدَمِهَا ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَةَ سَنَامِهَا وَخَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَلَا تَأْكُلْ منها أنت وَلَا أَحَدٌ من رُفْقَتِك وَإِنَّمَا لَا يَحِلُّ له أَنْ يَأْكُلَ منها وَلَهُ أَنْ يُطْعِمَ الْأَغْنِيَاءَ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ كانت في ذَبْحِهِ إذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ فإذا لم يَبْلُغْ كانت الْقُرْبَةُ في التَّصَدُّقِ‏.‏

وَلَا يَجِبُ عليه مَكَانَهُ آخَرُ لِأَنَّهُ لم يَكُنْ وَاجِبًا عليه وَيَتَصَدَّقُ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا لِمَا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لِعَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا وَلَا تُعْطِ الْجَزَّارَ منها شيئا وَلَا يَجُوزُ له أَنْ يَأْكُلَ من دَمِ النَّذْرِ شيئا وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الدِّمَاءَ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَجُوزُ لِصَاحِبِ الدَّمِ أَنْ يَأْكُلَ منه وهو دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ إذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ وَنَوْعٌ لَا يَجُوزُ له أَنْ يَأْكُلَ منه وهو دَمُ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَاتِ وَهَدْيُ الْإِحْصَارِ وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ إذَا لم يَبْلُغْ مَحِلَّهُ لِأَنَّ الدَّمَ في النَّوْعِ الْأَوَّلِ دَمُ شُكْرٍ فَكَانَ نُسُكًا فَكَانَ له أَنْ يَأْكُلَ منه وَدَمُ النَّذْرِ دَمُ صَدَقَةٍ وَكَذَا دَمُ الْكَفَّارَةِ في مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ وَجَبَ تكفيرا ‏[‏تكفير‏]‏ لذنب ‏[‏الذنب‏]‏ وَكَذَا دَمُ الْإِحْصَارِ لِوُجُودِ التَّحَلُّلِ وَالْخُرُوجِ من الْإِحْرَامِ قبل أَوَانِهِ وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ إذَا لم يَبْلُغْ مَحِلَّهُ بِمَعْنَى الْقُرْبَةِ في التَّصَدُّقِ بِهِ فَكَانَ دَمُ صَدَقَةٍ وَكُلُّ دَمٍ يَجُوزُ له أَنْ يَأْكُلَ منه لَا يَجِبُ عليه التَّصَدُّقُ بِلَحْمِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ لِأَنَّهُ لو وَجَبَ عليه التَّصَدُّقُ بِهِ لَمَا جَازَ أَكْلُهُ لِمَا فيه من إبْطَالِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ وَكُلُّ ما لَا يَجُوزُ له أَنْ يَأْكُلَ منه يَجِبُ عليه التَّصَدُّقُ بِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَجُزْ له أَكْلُهُ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ يُؤَدِّي إلَى إضَاعَةِ الْمَالِ وَكَذَا لو هَلَكَ الْمَذْبُوحُ بَعْدَ الذَّبْحِ لَا ضَمَانَ عليه في النَّوْعَيْنِ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ له في الْهَلَاكِ وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ بَعْدَ الذَّبْحِ فَإِنْ كان مِمَّا يَجِبُ عليه التَّصَدُّقُ بِهِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ فَيَتَصَدَّقُ بها لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْفُقَرَاءِ فَبِالِاسْتِهْلَاكِ تَعَدَّى على حَقِّهِمْ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَيَتَصَدَّقُ بها لِأَنَّهَا بَدَلُ أَصْلِ مَالٍ وَاجِبِ التَّصَدُّقِ بِهِ وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهِ لَا يَضْمَنُ شيئا لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه التَّعَدِّي بِإِتْلَافِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ وَلَوْ بَاعَ اللَّحْمَ يَجُوزُ بَيْعُهُ في النَّوْعَيْنِ جميعا لِأَنَّ مِلْكَهُ قَائِمٌ إلَّا أَنَّ فِيمَا لَا يَجُوزُ له أَكْلُهُ وَيَجِبُ عليه التَّصَدُّقُ بِهِ يَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ لِأَنَّ ثَمَنَهُ مَبِيعٌ وَاجِبٌ التَّصَدُّقُ بِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ بِهِ فَيَتَمَكَّنُ في ثَمَنِهِ حَنِثَ فَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ بِهِ وَالله تعالى أعلم‏.‏

فصل الْعُمْرَة

وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَالْكَلَامُ فيها يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ صِفَتِهَا أنها وَاجِبَةٌ أَمْ لَا وفي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِهَا إنْ كانت وَاجِبَةً وفي بَيَانِ رُكْنِهَا وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ وَاجِبَاتِهَا وفي بَيَانِ سُنَنِهَا وفي بَيَانِ ما يُفْسِدُهَا وفي بَيَانِ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيها قال أَصْحَابُنَا إنَّهَا وَاجِبَةٌ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَالْوِتْرِ وَمِنْهُمْ من أَطْلَقَ اسْمَ السُّنَّةِ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ لَا يُنَافِي الْوَاجِبَ وقال الشَّافِعِيُّ إنَّهَا فَرِيضَةٌ وقال بَعْضُهُمْ هِيَ تَطَوُّعٌ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال الْحَجُّ مَكْتُوبٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ وَهَذَا نَصٌّ وَعَنْ جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَجُلًا قال يا رَسُولَ اللَّهِ الْعُمْرَةُ أَهِيَ وَاجِبَةٌ قال لَا وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لك وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ‏}‏ وَالْأَمْرُ لِلْفَرْضِيَّةِ وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال الْعُمْرَةُ هِيَ الْحَجَّةُ الصُّغْرَى وقد ثَبَتَ فَرْضِيَّةُ الْحَجِّ بِنَصِّ الْكتاب الْعَزِيزِ

وَلَنَا على الشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ على الناس حِجُّ الْبَيْتِ من اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا‏}‏ ولم يذكر الْعُمْرَةَ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْحَجِّ لَا يَقَعُ على الْعُمْرَةِ فَمَنْ قال إنَّهَا فَرِيضَةٌ فَقَدْ زَادَ على النَّصِّ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ‏.‏

وَكَذَا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الذي جاء إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَسَأَلَهُ عن الْإِيمَانِ وَالشَّرَائِعِ فَبَيَّنَّ له الْإِيمَانَ وَبَيَّنَ له الشَّرَائِعَ ولم يذكر فيها الْعُمْرَةَ فقال الْأَعْرَابِيُّ هل عَلَيَّ شَيْءٌ غَيْرُ هذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي انتفاء ‏[‏انتقاء‏]‏ فَرِيضَةِ الْعُمْرَةِ وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَلَا دَلَالَةَ فيها على فَرْضِيَّةِ الْعُمْرَةِ لِأَنَّهَا قُرِئَتْ بِرَفْعِ الْعُمْرَةِ وَالْعُمْرَةُ لِلَّهِ وَأَنَّهُ كَلَامٌ تَامٌّ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مَعْطُوفٍ على الْأَمْرِ بِالْحَجِّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ رَدًّا لِزَعْمِ الْكَفَرَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ الْعُمْرَةَ لِلْأَصْنَامِ على ما كانت عِبَادَتُهُمْ من الْإِشْرَاكِ وَأَمَّا على قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ فَلَا حُجَّةَ له فيها أَيْضًا لِأَنَّ فيها أمرا ‏[‏أمر‏]‏ بِإِتْمَامِ الْعُمْرَةِ وَإِتْمَامُ الشَّيْءِ يَكُونُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فيه وَبِهِ نَقُولُ إنها بِالشُّرُوعِ تَصِيرُ فَرِيضَةً مع ما أَنَّهُ رُوِيَ عن عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا في تَأْوِيلِ الْآيَةِ إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا من دُوَيْرَةِ أَهْلِك على أَنَّ هذا إنْ كان أَمْرًا بِإِنْشَاءِ الْعُمْرَةِ فما الدَّلِيلُ على أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يُفِيدُ الْفَرْضِيَّةَ بَلْ الْفَرْضِيَّةُ عِنْدَنَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ زَائِدٍ وَرَاءَ نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنَّمَا يُحْمَلُ على الْوُجُوبِ احْتِيَاطًا وَبِهِ نَقُولُ أن الْعُمْرَةَ وَاجِبَةٌ وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ وَتَسْمِيَتُهَا حَجَّةً صُغْرَى في الحديث يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ في حُكْمِ الثَّوَابِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَجَّةٍ حَقِيقَةً‏.‏

أَلَا تَرَى أنها عُطِفَتْ على الْحَجَّةِ في الْآيَةِ وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ على نَفْسِهِ في الْأَصْلِ وَيُقَالُ حَجَّ فُلَانٌ وما اعْتَمَرَ على أَنَّ وَصْفَهَا بِالصِّغَرِ دَلِيلُ انْحِطَاطِ رُتْبَتِهَا عن الْحَجِّ فإذا كان الْحَجُّ فَرْضًا فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ هِيَ وَاجِبَةٌ لِيَظْهَرَ الِانْحِطَاطُ إذْ الْوَاجِبُ دُونَ الْفَرْضِ وَإِطْلَاقُ اسْمِ التَّطَوُّعِ عليها في الحديث يُصْلَحُ حُجَّةً على الشَّافِعِيِّ لَا عَلَيْنَا لِأَنَّهُ يقول بِفَرْضِيَّةِ الْعُمْرَةِ وَالتَّطَوُّعُ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا وَنَحْنُ نَقُولُ بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَالْوَاجِبُ ما يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا فَكَانَ إطْلَاقُ اسْمِ التَّطَوُّعِ صَحِيحًا على أَحَدِ الاحتماليْنِ وَلَيْسَ لِلْفَرْضِ هذا الاحتمال فَلَا يَصِحُّ الْإِطْلَاقُ وَقَوْلُ السَّائِلِ في الحديث السَّابِقِ أَهِيَ وَاجِبَةٌ مَحْمُولٌ على الْفَرْضِ إذْ هو الْوَاجِبُ على الْإِطْلَاقِ عَمَلًا وَاعْتِقَادًا عَيْنًا فَقَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم لَا نَفْيَ له وَبِهِ نَقُولُ وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِهَا فَهِيَ شراط ‏[‏شرائط‏]‏ وُجُوبِ الْحَجِّ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ في حَقِّ الْأَحْكَامِ وقد ذَكَرْنَا ذلك في فصل الْحَجِّ وَأَمَّا رُكْنُهَا فَالطَّوَافُ لِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏ وَلِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عليه وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فما ذَكَرْنَا في الْحَجِّ إلَّا الْوَقْتَ فإن السَّنَةَ كُلَّهَا وَقْتُ الْعُمْرَةِ وَتَجُوزُ في غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وفي أَشْهُرِ الْحَجِّ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ فِعْلُهَا في يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَمَّا الْجَوَازُ في الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ‏}‏ مُطْلَقًا عن الْوَقْتِ وقد رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت ما اعْتَمَرَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عُمْرَةً إلَّا شَهِدْتُهَا وما اعْتَمَرَ إلَّا في ذِي الْقَعْدَةِ‏.‏

وَعَنْ عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ مع طَائِفَةٍ من أَهْلِهِ في عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ فَدَلَّ الْحَدِيثَانِ على أَنَّ جَوَازِهَا في أَشْهُرِ الْحَجِّ وما رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كان يَنْهَى عنها في أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ مَحْمُولٌ على نَهْيِ الشَّفَقَةِ على أَهْلِ الْحَرَمِ لِئَلَّا يَكُونَ الْمَوْسِمُ في وَقْتٍ وَاحِدٍ من السَّنَةِ بَلْ في وَقْتَيْنِ لِتَوَسُّعِ الْمَعِيشَةِ على أَهْلِ الْحَرَمِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ في الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ عِنْدَنَا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ يوم عَرَفَةَ قبل الزَّوَالِ وقال الشَّافِعِيُّ لَا يُكْرَهُ في هذه الْأَيَّامِ أَيْضًا وَاحْتَجَّ بِمَا تَلَوْنَا من هذه الْآيَةِ وَبِمَا رَوَيْنَا من الْحَدِيثَيْنِ لِأَنَّهُ دخل يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ فيها وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّ ما قبل الزَّوَالِ من يَوْمِ عَرَفَةَ ليس وَقْتَ الْوُقُوفِ فَلَا يَشْغَلُهُ عن الْوُقُوفِ في وَقْتِهِ وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت وَقْتُ الْعُمْرَةِ السَّنَةُ كُلُّهَا إلَّا يوم عَرَفَةَ وَيَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَالظَّاهِرُ أنها قالت سَمَاعًا من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَنَّهُ باب لَا يُدْرَكُ بِالِاجْتِهَادِ وَلِأَنَّ هذه الْأَيَّامَ أَيَّامُ شُغْلِ الْحَاجِّ بِأَدَاءِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةُ فيها تَشْغَلُهُمْ عن ذلك وَرُبَّمَا يَقَعُ الْخَلَلُ فيه فَيُكْرَهُ وَلَا حُجَّةَ له فِيمَا ذُكِرَ لِأَنَّ ذلك يَدُلُّ على الْجَوَازِ وَبِهِ نَقُولُ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ في الْكَرَاهَةِ وَالْجَوَازِ لَا يَنْفِيهَا وقد قام دَلِيلُ الْكَرَاهَةِ وهو ما ذَكَرْنَا وَكَذَا يَخْتَلِفَانِ في الْمِيقَاتِ في حَقِّ أَهْلِ مَكَّةَ فَمِيقَاتُهُمْ لِلْحَجِّ من دُوَيْرَةِ أَهْلِهِمْ وَلِلْعُمْرَةِ من الْحِلِّ التَّنْعِيمِ أو غَيْرِهِ وَمَحْظُورَاتُ الْعُمْرَةِ ما هو مَحْظُورَاتُ الْحَجِّ وَحُكْمُ ارْتِكَابِهَا في الْعُمْرَةِ ما هو الْحُكْمُ في الْحَجِّ وقد مَضَى بَيَانُ ذلك كُلِّهِ في الْحَجِّ‏.‏

وَأَمَّا وَاجِبَاتُهَا فَشَيْئَانِ السَّعْيُ بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْحَلْقُ أو التَّقْصِيرُ فَأَمَّا طَوَافُ الصَّدْرِ فَلَا يَجِبُ على الْمُعْتَمِرِ وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ يَجِبُ عليه كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ طَوَافَ الصَّدْرِ طَوَافُ الْوَدَاعِ وَالْمُعْتَمِرُ يَحْتَاجُ إلَى الْوَدَاعِ كَالْحَاجِّ وَلَنَا أَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ طَوَافَ الصَّدْرِ بِالْحَجِّ بِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم من حَجَّ هذا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرَ عَهْدِهِ بِهِ الطَّوَافُ وَأَمَّا سُنَنُهَا فما ذَكَرْنَا في الْحَجِّ غير أَنَّهُ إذَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّلِ شَوْطٍ من الطَّوَافِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال مَالِكٌ إنْ كان إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ من الْمَدِينَةِ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا دخل الْحَرَمَ وَإِنْ كان إحْرَامُهُ لها من مَكَّةَ يَقْطَعُ إذَا وَقَعَ بَصَرُهُ على الْبَيْتِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُلَبِّي في الْعُمْرَةِ حتى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ وَعَنْ عَمْرِو بن شُعَيْبٍ عن أبيه عن جَدِّهِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرَ في ذِي الْقَعْدَةِ وكان يُلَبِّي في ذلك حتى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ وَلِأَنَّ اسْتِلَامَ الْحَجَرِ نُسُكٌ وَدُخُولُ الْحَرَمِ وَوُقُوعُ الْبَصَرِ على الْبَيْتِ ليس بِنُسُكٍ فَقَطْعُ التَّلْبِيَةِ عند ‏[‏عندنا‏]‏ ما هو نُسُكٌ أَوْلَى وَلِهَذَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ في الْحَجِّ عِنْدَ الرَّمْيِ لِأَنَّهُ نُسُكٌ كَذَا هذا وَالله أعلم‏.‏

وَأَمَّا بَيَانُ ما يُفْسِدُهَا وَبَيَانُ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ فَاَلَّذِي يُفْسِدُهَا الْجِمَاعُ لَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ كَوْنِهِ مُفْسِدًا وَذَلِكَ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا الْجِمَاعُ في الْفَرْجِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْحَجِّ

وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ قبل الطَّوَافِ كُلِّهِ أو أَكْثَرِهِ وهو أَرْبَعَةُ أَشْوَاطٍ لِأَنَّ رُكْنَهَا الطَّوَافُ فَالْجِمَاعُ حَصَلَ قبل أَدَاءِ الرُّكْنِ فَيُفْسِدُهَا كما لو حَصَلَ قبل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ في الْحَجِّ وإذا فَسَدَتْ يَمْضِي فيها وَيَقْضِيهَا وَعَلَيْهِ شَاةٌ لِأَجْلِ الْفَسَادِ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ بَدَنَةٌ كما في الْحَجِّ فَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ ما طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ أو بَعْدَ ما طَافَ الطَّوَافَ كُلَّهُ قبل السَّعْيِ أو بَعْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ قبل الْحَلْقِ لَا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ لِأَنَّ الْجِمَاعَ حَصَلَ بَعْدَ أَدَاءِ الرُّكْنِ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِحُصُولِ الْجِمَاعِ في الْإِحْرَامِ وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْحَلْقِ لَا شَيْءَ عليه لِخُرُوجِهِ عن الْإِحْرَامِ بِالْحَلْقِ فَإِنْ جَامَعَ ثُمَّ جَامَعَ فَهُوَ على التَّفْصِيلِ وَالِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في الْحَجِّ وَالله الموفق‏.‏

كتاب النِّكَاحِ

الْكَلَامُ في هذا الْكتاب في الْأَصْلِ في أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ في بَيَانِ صِفَةِ النِّكَاحِ الْمَشْرُوعِ وفي بَيَانِ رُكْنِ النِّكَاحِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِ النِّكَاحِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ أَنَّ النِّكَاحَ فَرْضٌ حَالَةَ التَّوَقَانِ حتى أَنَّ من تَاقَتْ نَفْسُهُ إلَى النِّسَاءِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهُنَّ وهو قَادِرٌ على الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ولم يَتَزَوَّجْ يَأْثَمُ وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا لم تَتُقْ نَفْسُهُ إلَى النِّسَاءِ على التَّفْسِيرِ الذي ذَكَرْنَا قال نُفَاةُ الْقِيَاسِ مِثْلُ دَاوُد بن عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيِّ وَغَيْرِهِ من أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ بِمَنْزِلَةِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا من فُرُوضِ الْأَعْيَانِ حتى أَنَّ من تَرَكَهُ مع الْقُدْرَةِ على الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالْوَطْءِ يَأْثَمُ وقال الشَّافِعِيُّ إنَّهُ مُبَاحٌ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه قال بَعْضُهُمْ إنَّهُ مَنْدُوبٌ وَمُسْتَحَبٌّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ من أَصْحَابِنَا الْكَرْخِيِّ وقال بَعْضُهُمْ إنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قام بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عن الْبَاقِينَ بِمَنْزِلَةِ الْجِهَادِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وقال بَعْضُهُمْ إنَّهُ وَاجِبٌ ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ اخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ قال بَعْضُهُمْ إنَّهُ وَاجِبٌ على سَبِيلِ الْكِفَايَةِ كَرَدِّ السَّلَامِ وقال بَعْضُهُمْ إنَّهُ وَاجِبٌ عَيْنًا لَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا على طَرِيقِ التَّعْيِينِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَالْوِتْرِ احْتَجَّ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ من نَحْوِ قَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ من النِّسَاءِ‏}‏ وَقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ من عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ‏}‏ وَقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا فإن الطَّلَاقَ يَهْتَزُّ له عَرْشُ الرحمن وَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمْ الْأُمَمَ يوم الْقِيَامَةِ أَمَرَ اللَّهُ عز وجل بِالنِّكَاحِ مُطْلَقًا وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِلْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ قَطْعًا إلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ بِخِلَافِهِ وَلِأَنَّ الِامْتِنَاعَ من الزِّنَا وَاجِبٌ وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالنِّكَاحِ وما لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ يَكُونُ وَاجِبًا‏.‏

وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ‏}‏ أَخْبَرَ عن إحْلَالِ النِّكَاحِ وَالْمُحَلَّلُ وَالْمُبَاحُ من الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ وَلِأَنَّهُ قال‏:‏ ‏{‏وَأُحِلَّ لَكُمْ‏}‏ وَلَفْظُ لَكُمْ يُسْتَعْمَلُ في الْمُبَاحَاتِ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ فَيَكُونُ مُبَاحًا كَشِرَاءِ الْجَارِيَةِ لِلتَّسَرِّي بها وَهَذَا لِأَنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ إيصَالُ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ يَجِبُ على الْإِنْسَانِ إيصَالُ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ بَلْ هو مُبَاحٌ في الْأَصْلِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وإذا كان مُبَاحًا لَا يَكُونُ وَاجِبًا لِمَا بَيْنَهُمَا من التَّنَافِي وَالدَّلِيلُ على أَنَّ النِّكَاحَ ليس بِوَاجِبٍ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من الصَّالِحِينَ‏}‏ وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ ليحيي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِكَوْنِهِ حَصُورًا وَالْحَصُورُ الذي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ مع الْقُدْرَةِ وَلَوْ كان وَاجِبًا لَمَا اسْتَحَقَّ الْمَدْحَ بِتَرْكِهِ لِأَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ لَأَنْ يُذَمَّ عليه أَوْلَى من أَنْ يُمْدَحَ‏.‏

وَاحْتَجَّ من قال من أَصْحَابِنَا أنه مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمُسْتَحَبٌّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال من اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لم يَسْتَطِعْ فَلْيَصُمْ فإن الصَّوْمَ له وِجَاءٌ أَقَامَ الصَّوْمَ مَقَامَ النِّكَاحِ وَالصَّوْمُ ليس بِوَاجِبٍ فَدَلَّ أَنَّ النِّكَاحَ ليس بِوَاجِبٍ أَيْضًا لِأَنَّ غير الْوَاجِبِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْوَاجِبِ وَلِأَنَّ في الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ من لم تَكُنْ له زَوْجَةٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عَلِمَ منه بِذَلِكَ ولم يُنْكِرْ عليه فَدَلَّ أَنَّهُ ليس بِوَاجِبٍ وَمَنْ قال منهم إنَّهُ فَرْضٌ أو وَاجِبٌ على سَبِيلِ الْكِفَايَةِ احْتَجَّ بِالْأَوَامِرِ الْوَارِدَةِ في باب النِّكَاحِ وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِلْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ قَطْعًا وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ ذلك على طَرِيقِ التَّعْيِينِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من آحَادِ الناس لو تَرَكَهُ لَا يَأْثَمُ فَيُحْمَلُ على الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ على طَرِيقِ الْكِفَايَةِ فَأَشْبَهَ الْجِهَادَ وَصَلَاةَ الْجِنَازَةِ وَرَدَّ السَّلَامِ وَمَنْ قال منهم أنه وَاجِبٌ عَيْنًا لَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا على طَرِيقِ التَّعْيِينِ يقول صِيغَةُ الْأَمْرِ الْمُطْلَقَةُ عن الْقَرِينَةِ تَحْتَمِلُ الْفَرْضِيَّةَ وَتَحْتَمِلُ النَّدْبَ لِأَنَّ الْأَمْرَ دُعَاءٌ وَطَلَبٌ وَمَعْنَى الدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ مَوْجُودٌ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيُؤْتَى بِالْفِعْلِ لَا مَحَالَةَ وهو تَفْسِيرُ وُجُوبِ الْعَمَلِ وَيُعْتَقَدُ على الْإِبْهَامِ على أَنَّ ما أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصِّيغَةِ من الْوُجُوبِ الْقَطْعِيِّ أو النَّدْبِ فَهُوَ حَقٌّ لِأَنَّهُ إنْ كان وَاجِبًا عِنْدَ اللَّهِ فَخَرَجَ عن الْعُهْدَةِ بِالْفِعْلِ فَيَأْمَنُ الضَّرَرَ وَإِنْ كان مَنْدُوبًا يَحْصُلُ له الثَّوَابُ فَكَانَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ على هذا الْوَجْهِ أَخْذًا بِالثِّقَةِ وَالِاحْتِيَاطِ وَاحْتِرَازًا عن الضَّرَرِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ شَرْعًا وَعَقْلًا

وَعَلَى هذا الْأَصْلِ بَنَى أَصْحَابُنَا من قال منهم إنَّ النِّكَاحَ فَرْضٌ أو وَاجِبٌ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهِ مع أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ أَوْلَى من التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ مع تَرْكِ النِّكَاحِ وهو قَوْلُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ كَيْفَ ما كان أَوْلَى من الِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ‏.‏

وَمَنْ قال منهم أنه مَنْدُوبٌ وَمُسْتَحَبٌّ فإنه يُرَجِّحُهُ على النَّوَافِلِ من وُجُوهٍ أُخَرَ أَحَدُهَا أَنَّهُ سُنَّةٌ قال النبي صلى الله عليه وسلم النِّكَاحُ سُنَّتِي وَالسُّنَنُ مُقَدَّمَةٌ على النَّوَافِلِ بِالْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّهُ أَوْعَدَ على تَرْكِ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ فَمَنْ رَغِبَ عن سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي وَلَا وَعِيدَ على تَرْكِ النَّوَافِلِ وَالثَّانِي أَنَّهُ فَعَلَهُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَوَاظَبَ عليه أَيْ دَاوَمَ وَثَبَتَ عليه بِحَيْثُ لم يَخْلُ عنه بَلْ كان يَزِيدُ عليه حتى تَزَوَّجَ عَدَدًا مِمَّا أُبِيحَ له من النِّسَاءِ وَلَوْ كان التَّخَلِّي لِلنَّوَافِلِ أَفْضَلَ لَمَا فَعَلَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عليهم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَتْرُكُونَ الْأَفْضَلَ فِيمَا له حَدٌّ مَعْلُومٌ لِأَنَّ تَرْكَ الْأَفْضَلِ فِيمَا له حَدٌّ مَعْلُومٌ عُدَّ زَلَّةً منهم وإذا ثَبَتَ أَفْضَلِيَّةُ النِّكَاحِ في حَقِّ النبي صلى الله عليه وسلم ثَبَتَ في حَقِّ الْأُمَّةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الشَّرَائِعِ هو الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ بِدَلِيلٍ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَقْصُودٍ هو مُفَضَّلٌ على النَّوَافِلِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ عن الْفَاحِشَةِ وَسَبَبٌ لِصِيَانَةِ نَفْسِهَا عن الْهَلَاكِ بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَاللِّبَاسِ لِعَجْزِهَا عن الْكَسْبِ وَسَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ الْمُوَحِّدِ وَكُلُّ وَاحِدٍ من هذه الْمَقَاصِدِ مُفَضَّلٌ على النَّوَافِلِ فَكَذَا السَّبَبُ الْمُوَصِّلُ إلَيْهِ كَالْجِهَادِ وَالْقَضَاءِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّخَلِّي أَوْلَى وَتَخْرِيجُ الْمَسْأَلَةِ على أَصْلِهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ النَّوَافِلَ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا فَكَانَتْ مُقَدَّمَةً على الْمُبَاحِ وما ذَكَرَهُ من دَلَائِلِ الْإِبَاحَةِ وَالْحِلِّ فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهَا أن النِّكَاحَ مُبَاحٌ وَحَلَالٌ في نَفْسِهِ لَكِنَّهُ وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ أو مَنْدُوبٌ وَمُسْتَحَبٌّ لِغَيْرِهِ من حَيْثُ أنه صِيَانَةٌ لِلنَّفْسِ من الزِّنَا وَنَحْوِ ذلك على ما بَيَّنَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ حَلَالًا بِجِهَةٍ وَاجِبًا أو مَنْدُوبًا إلَيْهِ بِجِهَةٍ إذْ لَا تَنَافِيَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَتَيْنِ وَأَمَّا قَوْلُهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من الصَّالِحِينَ‏}‏ فَاحْتَمَلَ أَنَّ التَّخَلِّيَ لِلنَّوَافِلِ كان أَفْضَلَ من النِّكَاحِ في شَرِيعَتِهِ ثُمَّ نُسِخَ ذلك في شَرِيعَتِنَا بِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ وَالله أعلم‏.‏

فصل رُكْن النِّكَاحِ

وَأَمَّا رُكْنُ النِّكَاحِ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَذَلِكَ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ أو ما يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ في هذا الْفصل في أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في بَيَانِ اللَّفْظِ الذي يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِهِ بِحُرُوفِهِ وَالثَّانِي في بَيَانِ صِيغَةِ ذلك اللَّفْظِ وَالثَّالِثُ في بَيَانِ أَنَّ النِّكَاحَ هل يَنْعَقِدُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ أو لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِعَاقِدَيْنِ وَالرَّابِعُ في بَيَانِ صِفَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ أَمَّا بَيَانُ اللَّفْظِ الذي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ بِحُرُوفِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ لَا خِلَافَ أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَهَلْ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالتَّمْلِيكِ قال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَنْعَقِدُ وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال اتَّقُوا اللَّهَ في النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ اتَّخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ التي أَحَلَّ بها الْفُرُوجَ في كتابهِ الْكَرِيمِ لَفْظُ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ فَقَطْ قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ‏}‏ وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏زوجناكها‏}‏ زَوَّجْنَاكَهَا وَلِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلنِّكَاحِ هو الِازْدِوَاجُ وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ وَسِيلَةً إلَيْهِ فَوَجَبَ اخْتِصَاصُهُ بِلَفْظٍ يَدُلُّ على الِازْدِوَاجِ وهو لَفْظُ التَّزْوِيجِ وَالْإِنْكَاحِ لَا غَيْرُ وَلَنَا أَنَّهُ انْعَقَدَ نِكَاحُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِلَفْظِ الْهِبَةِ فَيَنْعَقِدُ بِهِ نِكَاحُ أُمَّتِهِ وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النبي صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لك‏}‏ مَعْطُوفًا على قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يا أَيُّهَا النبي صلى الله عليه وسلم إنَّا أَحْلَلْنَا لك أَزْوَاجَك‏}‏ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُؤْمِنَةَ التي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم عِنْدَ اسْتِنْكَاحِهِ إيَّاهَا حَلَالٌ له وما كان مَشْرُوعًا في حَقِّ النبي صلى الله عليه وسلم يَكُونُ مَشْرُوعًا في حَقِّ أُمَّتِهِ هو الْأَصْلُ حتى يَقُومَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ فَإِنْ قِيلَ قد قام دَلِيلُ الْخُصُوصِ هَهُنَا وهو قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏خَالِصَةً لك من دُونِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ منه‏:‏ ‏{‏خَالِصَةً لك من دُونِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ بِغَيْرِ أَجْرٍ فَالْخُلُوصُ يَرْجِعُ إلَى الْأَجْرِ لَا إلَى لَفْظِ الْهِبَةِ لِوُجُوهٍ‏.‏

أَحَدُهَا ذَكَرَهُ عَقِيبَهُ وهو قَوْلُهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏قد عَلِمْنَا ما فَرَضْنَا عليهم في أَزْوَاجِهِمْ‏}‏ فَدَلَّ أَنَّ خُلُوصَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ له كان بِالنِّكَاحِ بِلَا فَرْضٍ منه وَالثَّانِي أَنَّهُ قال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لكيلا ‏[‏لكي‏]‏ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ‏}‏ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا حَرَجَ كان يَلْحَقُهُ في نَفْسِ الْعِبَارَةِ وَإِنَّمَا الْحَرَجُ في إعْطَاءِ الْبَدَلِ وَالثَّالِثُ أَنَّ هذا خَرَجَ مَخْرَجَ الِامْتِنَانِ عليه وَعَلَى أُمَّتِهِ في لَفْظِ الْهِبَةِ لَيْسَتْ تِلْكَ في لَفْظَةِ التَّزْوِيجِ فَدَلَّ أَنَّ الْمِنَّةَ فِيمَا صَارَتْ له بِلَا مَهْرٍ فَانْصَرَفَ الْخُلُوصُ إلَيْهِ وَلِأَنَّ الِانْعِقَادَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ لِكَوْنِهِ لَفْظًا مَوْضُوعًا لِحُكْمِ أَصْلِ النِّكَاحِ شَرْعًا وهو الِازْدِوَاجُ وَأَنَّهُ لم يُشْرَعْ بِدُونِ الْمِلْكِ فإذا أتى بِهِ يَثْبُتُ الِازْدِوَاجُ بِاللَّفْظِ وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ الذي يُلَازِمُهُ شَرْعًا وَلَفْظُ التَّمْلِيكِ مَوْضُوعٌ لِحُكْمٍ آخَرَ أَصْلِيٍّ لِلنِّكَاحِ وهو الْمِلْكُ وأنه غَيْرُ مَشْرُوعٍ في النِّكَاحِ بِدُونِ الِازْدِوَاجِ فإذا أتى بِهِ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ الْمِلْكُ وَيَثْبُتَ الِازْدِوَاجُ الذي يُلَازِمُهُ شَرْعًا اسْتِدْلَالًا لِأَحَدِ اللَّفْظَيْنِ بِالْآخَرِ وَهَذَا لِأَنَّهُمَا حُكْمَانِ مُتَلَازِمَانِ شَرْعًا ولم يُشْرَعْ أَحَدُهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ فإذا ثَبَتَ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ الْآخَرُ ضَرُورَةً وَيَكُونُ الرِّضَا بِأَحَدِهِمَا رِضًا بِالْآخِرِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ أن اسْتِحْلَالَ الْفُرُوجِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ اسْتِحْلَالٌ بِغَيْرِ كَلِمَةِ اللَّه فَيَرْجِعُ الْكَلَامُ إلَى تَفْسِيرِ الْكَلِمَةِ الْمَذْكُورَةِ فَنَقُولُ كَلِمَةُ اللَّهِ تَعَالَى تَحْتَمِلُ حُكْمَ اللَّهِ عز وجل كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ من رَبِّكَ‏}‏ فَلِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّ جَوَازَ النِّكَاحِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ ليس حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى ما ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ مع ما أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ جُعِلَ عَلَمًا على حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِضَافَةُ الْكَلِمَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ أَنَّ الشَّارِعَ هو اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ الْجَاعِلُ اللَّفْظَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ شَرْعًا فَكَانَ كَلِمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَمِنْ هذا الْوَجْهِ على الِاسْتِحْلَالِ بِكَلِمَةِ اللَّهِ لَا ينفي الِاسْتِحْلَال لَا بِكَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ مَسْكُوتًا عنه فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا‏.‏

وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمْ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظٍ مَوْضُوعٍ لَتَمْلِيكِ الْعَيْنِ هَكَذَا روي ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال كُلُّ لَفْظٍ يَكُونُ في اللُّغَةِ تَمْلِيكًا لِلرَّقَبَةِ فَهُوَ في الْحُرَّةِ نِكَاحٌ

وَحُكِيَ عن الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏ سمى اللَّهُ تَعَالَى الْمَهْرَ أَجْرًا وَلَا أَجْرَ إلَّا بِالْإِجَارَةِ فَلَوْ لم تَكُنْ الْإِجَارَةُ نِكَاحًا لم يَكُنْ الْمَهْرُ أَجْرًا

وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ موقت بِدَلِيلِ أَنَّ التَّأْبِيدَ يُبْطِلُهَا وَالنِّكَاحُ عَقْدٌ مُؤَبَّدٍ بِدَلِيلِ أَنَّ التَّوْقِيتَ يُبْطِلُهُ وَانْعِقَادُ الْعَقْدِ بِلَفْظٍ يَتَضَمَّنُ الْمَنْعَ من الِانْعِقَادِ مُمْتَنِعٌ وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ في حُكْمِ الْأَجْزَاءِ وَالْأَعْيَانِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ مِلْكُ الْعَيْنِ بِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِعَارَةِ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ إنْ كانت إبَاحَةَ الْمَنْفَعَةِ فَالنِّكَاحُ لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ أَصْلًا وَإِنْ كانت تَمْلِيكَ الْمُتْعَةِ فَالنِّكَاحُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظٍ مَوْضُوعٍ لَتَمْلِيكِ الرَّقَبَةِ ولم يُوجَدْ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في لَفْظِ الْقَرْضِ قال بَعْضُهُمْ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ في مَعْنَى الْإِعَارَةِ وقال بَعْضُهُمْ يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ في الْعَيْنِ لِأَنَّ الْمُسْتَقْرَضَ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْمُسْتَقْرِضِ وَكَذَا اخْتَلَفُوا في لَفْظِ السَّلَمِ قال بَعْضُهُمْ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ السَّلَمَ في الْحَيَوَانِ لَا يَصِحُّ وقال بَعْضُهُمْ يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَالسَّلَمُ في الْحَيَوَانِ يَنْعَقِدُ عِنْدَنَا حتى لو اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ يُعَدُّ الْمِلْكُ مِلْكًا فَاسِدًا لَكِنْ ليس كُلُّ ما يُفْسِدُ الْبَيْعَ يُفْسِدُ النِّكَاحَ وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا في لَفْظِ الصَّرْفِ قال بَعْضُهُمْ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ في الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ التي لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَالْمَعْقُودُ عليه هَهُنَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وقال بَعْضُهُمْ يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ مِلْكُ الْعَيْنِ في الْجُمْلَةِ‏.‏

وَأَمَّا لَفْظُ الْوَصِيَّةِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ وَالنِّكَاحُ الْمُضَافُ إلَى زَمَانٍ في الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَصِحُّ وَحُكِيَ عن الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ في الْجُمْلَةِ وَحَكَى أبو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيُّ عن الْكَرْخِيِّ أن قَيَّدَ الْوَصِيَّةَ بِالْحَالِّ بِأَنْ قال أَوْصَيْتُ لك بابنَتِي هذه الْآنَ يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ إذَا قَيَّدَهُ بِالْحَالِّ صَارَ مَجَازًا عن التَّمْلِيكِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِحْلَالِ وَالْإِبَاحَةِ لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ على الْمِلْكِ أَصْلًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُبَاحَ له الطَّعَامُ يَتَنَاوَلُهُ على حُكْمِ مِلْكِ الْمُبِيحِ حتى كان له حَقُّ الْحَجْرِ وَالْمَنْعِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْمُتْعَةِ لِأَنَّهُ لم يُوضَعْ لِلتَّمْلِيكِ وَلِأَنَّ الْمُتْعَةَ عَقْدٌ مَفْسُوخٌ لِمَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ في مَوْضِعِهِ وَلَوْ أَضَافَ الْهِبَةَ إلَى الْأَمَةِ بِأَنْ قال رَجُلٌ وَهَبْتُ أَمَتِي هذه مِنْكَ فَإِنْ كان الْحَالُ يَدُلُّ على النِّكَاحِ من إحْضَارِ الشُّهُودِ وَتَسْمِيَةِ الْمَهْرِ مُؤَجَّلًا وَمُعَجَّلًا وَنَحْوِ ذلك يُنْصَرَفُ إلَى النِّكَاحِ وَإِنْ لم يَكُنْ الْحَالُ دَلِيلًا على النِّكَاحِ فَإِنْ نَوَى النِّكَاحَ فَصَدَقَهُ الْمَوْهُوبُ له فَكَذَلِكَ وَيُنْصَرَفُ إلَى النِّكَاحِ بِقَرِينَةِ النِّيَّةِ وَإِنْ لم يَنْوِ يُنْصَرَفُ إلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ‏.‏

ثُمَّ النِّكَاحُ كما يَنْعَقِدُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ يَنْعَقِدُ بها بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ بِالْوَكَالَةِ وَالرِّسَالَةِ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ كَتَصَرُّفِ الْمُوَكِّلِ وَكَلَامَ الرَّسُولِ كَلَامُ الْمُرْسِلِ وَالْأَصْلُ في جَوَازِ الْوَكَالَةِ في باب النِّكَاحِ ما رُوِيَ أَنَّ النَّجَّاشِيَّ زَوَّجَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أُمَّ حَبِيبَةَ رضي اللَّهُ عنها فَلَا يَخْلُو ذلك إمَّا أَنْ فَعَلَهُ بِأَمْرِ النبي صلى الله عليه وسلم أو لَا بِأَمْرِهِ فَإِنْ فَعَلَهُ بِأَمْرِهِ فَهُوَ وَكِيلُهُ وَإِنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَقَدْ أَجَازَ النبي صلى الله عليه وسلم عَقْدَهُ وَالْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ كَالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ وَكَمَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْعِبَارَةِ يَنْعَقِدُ بِالْإِشَارَةِ من الْأَخْرَسِ إذَا كانت إشَارَتُهُ مَعْلُومَةً وَيَنْعَقِدُ بِالْكتابةِ لِأَنَّ الْكتاب من الْغَائِبِ خِطَابُهُ وَالله تعالى أعلم‏.‏

وَأَمَّا بَيَانُ صِيغَةِ اللَّفْظِ الذي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عن الْمَاضِي كَقَوْلِهِ زَوَّجْتُ وَتَزَوَّجْتُ وما يَجْرِي مَجْرَاهُ وإما بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عن الْمَاضِي وَبِالْآخَرِ عن الْمُسْتَقْبَلِ كما إذَا قال رَجُلٌ لِرَجُلٍ زَوِّجْنِي بِنْتَك أو قال جِئْتُكَ خَاطِبًا ابْنَتَك أو قال جِئْتُك لِتُزَوِّجَنِي بِنْتَك فقال الْأَبُ قد زَوَّجْتُك أو قال لِامْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُك على أَلْفِ دِرْهَمٍ فقالت قد تَزَوَّجْتُك على ذلك أو قال لها زَوِّجِينِي أو انْكِحِينِي نَفْسَك فقالت زَوَّجْتُك أو أَنْكَحْت يَنْعَقِدُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ لِأَنَّ لَفْظَ الِاسْتِقْبَالِ عُدَّةٌ وَالْأَمْرُ من فُرُوعِ الِاسْتِقْبَالِ فلم يُوجَدْ الِاسْتِقْبَالُ فلم يُوجَدُ الْإِيجَابُ إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا رضي اللَّهُ عنه خَطَبَ إلَى قَوْمٍ من الْأَنْصَارِ فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ فقال لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَمَرَنِي أَنْ أَخْطُبَ إلَيْكُمْ لَمَا خَطَبْتُ فَقَالُوا له مَلَكْت ولم يُنْقَلْ أَنَّ بِلَالًا أَعَادَ الْقَوْلَ وَلَوْ فَعَلَ لِنَقُلْ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ أَرَادَ الْإِيجَابَ لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ لَا تَتَحَقَّقُ في النِّكَاحِ عَادَةً فَكَانَ مَحْمُولًا على الْإِيجَابِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فإن السَّوْمَ مُعْتَادٌ فيه فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عليه فَلَا بُدَّ من لَفْظٍ آخَرَ يَتَأَدَّى بِهِ الْإِيجَابُ وَالله الموفق‏.‏

وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ النِّكَاحَ هل يَنْعَقِدُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ أو لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِعَاقِدَيْنِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ في هذا الْفصل قال أَصْحَابُنَا يَنْعَقِدُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ إذَا كانت له وِلَايَةٌ من الْجَانِبَيْنِ سَوَاءً كانت وِلَايَتُهُ أَصْلِيَّةً كَالْوِلَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْمِلْكِ وَالْقَرَابَةِ أو دَخِيلَةً كَالْوِلَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْوَكَالَةِ بِأَنْ كان الْعَاقِدُ مَالِكًا من الْجَانِبَيْنِ كَالْمَوْلَى إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ من عَبْدِهِ أو كان وَلِيًّا من الْجَانِبَيْنِ كَالْجَدِّ إذَا زَوَّجَ ابْنَ ابْنِهِ الصَّغِيرَ من بِنْتِ ابْنِهِ الصَّغِيرَةِ وَالْأَخَ إذَا زَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ الصَّغِيرَةِ من ابْنِ أَخِيهِ الصَّغِيرِ أو كان أَصِيلًا وَوَلِيًّا كَابْنِ الْعَمِّ إذَا زَوَّجَ بِنْتَ عَمِّهِ من نَفْسِهِ أو كان وَكِيلًا من الْجَانِبَيْنِ أو رَسُولًا من الْجَانِبَيْنِ أو كان وَلِيًّا من جَانِبٍ وَوَكِيلًا من جَانِبٍ آخَرَ أو وَكَّلَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا لِيَتَزَوَّجَهَا من نَفْسِهِ أو وَكَّلَ رَجُلٌ امْرَأَةً لِتُزَوِّجَ نَفْسَهَا منها وَهَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ أَصْلًا وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا إذَا كان وَلِيًّا من الْجَانِبَيْنِ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَاحِدَ هل يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ بِالنِّكَاحِ من الْجَانِبَيْنِ أَمْ لَا وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ رُكْنَ النِّكَاحِ اسْمٌ لِشَطْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وهو الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَلَا يَقُومَانِ إلَّا بِعَاقِدَيْنِ كَشَطْرَيْ الْبَيْعِ إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يقول في الْوَلِيِّ ضَرُورَةٌ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ بِلَا وَلِيٍّ فإذا كان الْوَلِيُّ مُتَعَيَّنًا فَلَوْ لم يُجِزْ نِكَاحَ الْمُوَلِّيَةِ لَامْتَنَعَ نِكَاحُهَا أَصْلًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ في الْوَكِيلِ وَنَحْوِهِ‏.‏

وَلَنَا قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَفْتُونَك في النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وما يُتْلَى عَلَيْكُمْ في الْكتاب في يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتَوْنَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ‏}‏ قِيلَ نَزَلَتْ هذه الْآيَةُ في يَتِيمَةٍ في حِجْرِ وَلِيِّهَا وَهِيَ ذَاتُ مَالٍ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا تُؤْتَوْنَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ‏}‏ خَرَجَ مَخْرَجَ الْعِتَابِ فَيَدُلُّ على أَنَّ الْوَلِيَّ يَقُومُ بِنِكَاحِ وَلِيَّتِهِ وَحْدَهُ إذا لو لم يَقُمْ وَحْدَهُ بِهِ لم يَكُنْ لِلْعِتَابِ مَعْنًى لِمَا فيه من إلْحَاقِ الْعِتَابِ بِأَمْرٍ لَا يَتَحَقَّقُ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ‏}‏ أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْإِنْكَاحِ مُطْلَقًا من غَيْرِ فصل بين الْإِنْكَاحِ من غَيْرِهِ أو من نَفْسِهِ وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ في باب النِّكَاحِ ليس بِعَاقِدٍ بَلْ هو سَفِيرٌ عن الْعَاقِدِ وَمُعَبِّرٌ عنه بِدَلِيلِ أَنَّ حُقُوقَ النِّكَاحِ وَالْعَقْدِ لَا تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ وإذا كان مُعَبِّرًا عنه وَلَهُ وِلَايَةٌ على الزَّوْجَيْنِ فَكَانَتْ عِبَارَتُهُ كَعِبَارَةِ الْمُوَكِّلِ فَصَارَ كَلَامُهُ كَكَلَامِ شَخْصَيْنِ فَيُعْتَبَرُ إيجَابُهُ كَلَامًا لِلْمَرْأَةِ كَأَنَّهَا قالت زَوَّجْت نَفْسِي من فُلَانٍ وَقَبُولُهُ كَلَامًا لِلزَّوْجِ كَأَنَّهُ قال قَبِلْت فَيَقُومُ الْعَقْدُ بِاثْنَيْنِ حُكْمًا وَالثَّابِتُ بِالْحُكْمِ مُلْحَقٌ بِالثَّابِتِ حَقِيقَةً وَأَمَّا الْبَيْعُ فَالْوَاحِدُ فيه إذَا كان وَلِيًّا يَقُومُ بِطَرَفَيْ الْعَقْدِ كَالْأَبِ يَشْتَرِي مَالَ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ أو يَبِيعُ مَالَ نَفْسِهِ من الصَّغِيرِ أو يَبِيعُ مَالَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ من ابْنِهِ الصَّغِيرِ أو يَشْتَرِي إلَّا أَنَّهُ إذَا كان وَكِيلًا لَا يَقُومُ بِهِمَا لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ مُقْتَصِرَةٌ على الْعَاقِدِ فَلَا يَصِيرُ كَلَامُ الْعَاقِدِ كَلَامَ الشَّخْصَيْنِ وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْبَيْعِ إذَا كانت مُقْتَصِرَةً على الْعَاقِدِ وَلِلْبَيْعِ أَحْكَامٌ مُتَضَادَّةٌ من التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ وَالْمُطَالَبَةِ فَلَوْ تَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ لَصَارَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ مُطَالِبًا وَمَطْلُوبًا وَمُسَلِّمًا وَمُتَسَلِّمًا وَهَذَا مُمْتَنِعٌ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ‏.‏ وَأَمَّا صِفَةُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَهِيَ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا لَازِمًا قبل وُجُودِ الْآخَرِ حتى لو وُجِدَ الْإِيجَابُ من أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كان له أَنْ يَرْجِعَ قبل قَبُولِ الْآخَرِ كما في الْبَيْعِ لِأَنَّهُمَا جميعا رُكْنٌ وَاحِدٌ فَكَانَ أَحَدُهُمَا بَعْضَ الرُّكْنِ وَالْمُرَكَّبُ من شَيْئَيْنِ لَا وُجُودَ له بِأَحَدِهِمَا‏.‏

فصل شَرَائِط ركْنِ النكاح

وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ الْجَوَازِ وَالنَّفَاذِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ اللُّزُومِ أَمَّا شَرْطُ الِانْعِقَادِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ بِالْفِعْلِ فَلَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّ الْعَقْلَ من شَرَائِطِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَشَرْطُ النَّفَاذِ عِنْدَنَا لَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ على ما نَذْكُرُ إن شاء الله تعالى‏.‏ وَأَمَّا تَعَذُّرُ الْعَاقِدِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ النِّكَاحِ خِلَافًا لِزُفَرَ على ما مَرَّ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ فَهُوَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ إذَا كان الْعَاقِدَانِ حَاضِرَيْنِ وهو أَنْ يَكُونَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ حتى لو اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِأَنْ كَانَا حَاضِرَيْنِ فَأَوْجَبَ أَحَدُهُمَا فَقَامَ الْآخَرُ عن الْمَجْلِسِ قبل الْقَبُولِ أو اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَجْلِسِ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ انْعِقَادَهُ عِبَارَةٌ عن ارْتِبَاطِ أَحَدِ الشَّطْرَيْنِ بِالْآخَرِ فَكَانَ الْقِيَاسُ وُجُودَهُمَا في مَكَان وَاحِدٍ إلَّا أَنَّ اعْتِبَارَ ذلك يُؤَدِّي إلَى سَدِّ باب الْعُقُودِ فَجُعِلَ الْمَجْلِسُ جَامِعًا لِلشَّطْرَيْنِ حُكْمًا مع تَفَرُّقِهِمَا حَقِيقَةً لِلضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ فإذا اخْتَلَفَ تَفَرُّقُ الشطران ‏[‏الشطرين‏]‏ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا يَنْتَظِمُ الرُّكْنُ

وَأَمَّا الْفَوْرُ فَلَيْسَ من شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ عِنْدَنَا‏.‏

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هو شَرْطٌ وَالْمَسْأَلَةُ سَتَأْتِي في كتاب الْبُيُوعِ وَنَذْكُرُ الْفَرْقَ هُنَاكَ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا تَنَاكَحَا وَهُمَا يَمْشِيَانِ أو يَسِيرَانِ على الدَّابَّةِ وهو على التَّفْصِيلِ الذي نَذْكُرُ إن شاء الله تعالى في كتاب الْبُيُوعِ وَنَذْكُرُ الْفَرْقَ هُنَاكَ بين الْمَشْيِ وَالسَّيْرِ على الدَّابَّةِ وَبَيْنَ جَرَيَانِ السَّفِينَةِ هذا إذَا كان الْعَاقِدَانِ حَاضِرَيْنِ فَأَمَّا إذَا كان أَحَدُهُمَا غَائِبًا لم يَنْعَقِدْ حتى لو قالت امْرَأَةٌ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ زَوَّجْت نَفْسِي من فُلَانٍ وهو غَائِبٌ فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فقال قَبِلْت أو قال رَجُلٌ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ وَهِيَ غَائِبَةٌ فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ فقالت زَوَّجْت نَفْسِي منه لم يَجُزْ وَإِنْ كان الْقَبُولُ بِحَضْرَةِ ذَيْنك الشَّاهِدَيْنِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وقال أبو يُوسُفَ يَنْعَقِدُ وَيَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ الْغَائِبِ وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ كَلَامَ الْوَاحِدِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عَقْدًا في باب النِّكَاحِ لِأَنَّ الْوَاحِدَ في هذا الْباب يَقُومُ بِالْعَقْدِ من الْجَانِبَيْنِ وَكَمَا لو كان مَالِكًا من الْجَانِبَيْنِ أو وَلِيًّا أو وَكِيلًا فَكَانَ كَلَامُهُ عَقْدًا لَا شَطْرًا فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلتَّوَقُّفِ كما في الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ والاعتاق على مَالٍ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذا شَطْرُ الْعَقْدِ حَقِيقَةً لَا كُلُّهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْلَكُ كُلُّهُ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ وَشَطْرُ الْعَقْدِ لَا يَقِفُ على غَائِبٍ عن الْمَجْلِسِ كَالْبَيْعِ وَهَذَا لِأَنَّ الشَّطْرَ لَا يَحْتَمِلُ التَّوَقُّفَ حَقِيقَةً لِأَنَّ التَّوَقُّفَ في الْأَصْلِ على خِلَافِ الْحَقِيقَةِ لِصُدُورِهِ عن الْوَلَاءِ على الْجَانِبَيْنِ فَيَصِيرُ كَلَامُهُ بِمَنْزِلَةِ كَلَامَيْنِ وَشَخْصُهُ كَشَخْصَيْنِ حُكْمًا فإذا انْعَدَمَتْ الْوِلَايَةُ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى تَعْيِينِ الْحَقِيقَةِ فَلَا يَقِفُ بِخِلَافِ الْخُلْعِ لِأَنَّهُ من جَانِبِ الزَّوْجِ يَمِينٌ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِقَبُولِ الْمَرْأَةِ وَأَنَّهُ يَمِينٌ فَكَانَ عَقْدًا تَامًّا وَمِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ مُعَاوَضَةً فَلَا يَحْتَمِلُ التَّوَقُّفَ كَالْبَيْعِ وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْإِعْتَاقُ على مَالٍ وَلَوْ أَرْسَلَ إلَيْهَا رَسُولًا وَكَتَبَ إلَيْهَا بِذَلِكَ كتابا فَقَبِلَتْ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ سَمِعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكتاب جَازَ ذلك لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ من حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ كَلَامَ الرَّسُولِ كَلَامُ الْمُرْسِلِ لِأَنَّهُ يَنْقُلُ عِبَارَةَ الْمُرْسِلِ وَكَذَا الْكتاب بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ من الْكَاتِبِ فَكَانَ سَمَاعُ قَوْلِ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةُ الْكتاب سَمَاعَ قَوْلِ الْمُرْسِلِ وَكَلَامَ الْكَاتِبِ مَعْنًى وَإِنْ لم يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكتاب لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ إذَا قالت زَوَّجْتُ نَفْسِي يَجُوزُ وَإِنْ لم يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكتاب بِنَاءً على أَنَّ قَوْلَهَا زَوَّجْت نَفْسِي شَطْرُ الْعَقْدِ عِنْدَهُمَا وَالشَّهَادَةُ في شَطْرَيْ الْعَقْدِ شَرْطٌ لِأَنَّهُ يَصِيرُ عَقْدًا بِالشَّطْرَيْنِ فإذا لم يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكتاب فلم تُوجَدْ الشَّهَادَةُ على الْعَقْدِ وَقَوْلُ الزَّوْجِ بِانْفِرَادِهِ عَقْدٌ عِنْدَهُ وقد حَضَرَ الشَّاهِدَانِ‏.‏

وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الْفُضُولِيُّ الْوَاحِدُ من الْجَانِبَيْنِ بِأَنْ قال الرَّجُلُ زَوَّجْت فُلَانَةَ من فُلَانٍ وَهُمَا غَائِبَانِ لم يَنْعَقِدْ عِنْدَهُمَا حتى لو بَلَغَهُمَا الْخَبَرُ فَأَجَازَا لم يَجُزْ وَعِنْدَهُ يَنْعَقِدُ وَيَجُوزُ بِالْإِجَازَةِ وَلَوْ قال فُضُولِيٌّ زَوَّجْت فُلَانَةَ من فُلَانٍ وَهُمَا غَائِبَانِ فَقَبِلَ فُضُولِيٌّ آخَرُ عن الزَّوْجِ يَنْعَقِدُ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا حتى إذَا بَلَغَهُمَا الْخَبَرُ وَأَجَازَا جَازَ وَلَوْ فَسَخَ الْفُضُولِيُّ الْعَقْدَ قبل إجَازَةِ من وَقَفَ الْعَقْدُ على إجَازَتِهِ صَحَّ الْفَسْخُ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِحُّ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ بِالْفَسْخِ مُتَصَرِّفٌ في حَقِّ غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ وَدَلَالَةُ ذلك أَنَّ الْعَقْدَ قد انْعَقَدَ في حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ من تَوَقَّفَ على إجَازَتِهِ لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ الْإِجَازَةِ ثَبَتَ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ فَكَانَ هو بِالْفَسْخِ مُتَصَرِّفًا في مَحِلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ فَلَا يَصِحُّ فَسْخُهُ بِخِلَافِ الْفُضُولِيِّ إذَا بَاعَ ثُمَّ فَسَخَ قبل اتِّصَالِ الْإِجَازَةِ بِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّ الْفَسْخَ هُنَاكَ تَصَرُّفٌ دَفَعَ الْحُقُوقَ عن نَفْسِهِ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ تَتَعَلَّقُ حُقُوقُ الْعَقْدِ بِالْوَكِيلِ فَكَانَ هو بِالْفَسْخِ دَافِعًا الْحُقُوقَ عن نَفْسِهِ فَيَصِحُّ كَالْمَالِكِ إذَا أَوْجَبَ النِّكَاحَ أو الْبَيْعَ أَنَّهُ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ قبل قَبُولِ الْآخَرِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْعَقْدَ قبل الْإِجَازَةِ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ في حَقِّ الْحُكْمِ وَإِنَّمَا انْعَقَدَ في حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَقَطْ فَكَانَ الْفَسْخُ منه قبل الْإِجَازَةِ تَصَرُّفًا في كَلَامِ نَفْسِهِ بِالنَّقْضِ فَجَازَ كما في الْبَيْعِ‏.‏